Friday, November 11, 2016

أهل السلام: المكسيك والرحمة والرفق بالحيوان في الإسلام


مما لا شك فيه أن تأخر المجتمعات الإسلامية والعربية لا يرجع فقط لكونها مجتمعات تحولت من الإبداع إلى التبعية، ومن الإنتاج إلى الاستهلاك، بل كذلك لكونها جعلت الأخلاق والقيم في آخر اهتماماتها، وحرمت الإنسان من الكرامة التي فطره الله عليها، والطبيعة من الجمال الذي وهبه الله لها، والحيوان من الرحمة التي خصه الله بها. وأنا هنا سأتكلم عن أهل السلام، وهم أناس يكرمون الإنسان، ويحافظون على البيئة ويرحمون الحيوان، وعن مواقف حصلت معي أو مع أشخاص أعرفهم، تؤكد أن السلام يتحقق عندما نساهم في التغيير، وأول ما يجب أن نبدأ به في مسار التغيير هو أن نغير ما بأنفسنا، كما جاء في الذكر الحكيم "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ".

الموقف الأول الذي اخترته لسلسلة أهل السلام عشته شخصيا خلال تواجدي بالعاصمة المكسيكية، وذكرني بالأخلاق النبيلة التي تربينا عليها لكننا وللأسف ابتعدنا أو تخلينا عنها. كنت كلما خرجت من المنزل الذي أسكنه أسمع زقزقة العصافير وهي تعبر عن سعادتها وامتنانها لصاحب المنزل الذي يكرمها يوميا بالأكل والشراب، كما هو واضح في الصورة. في الحقيقة لم تكن العصافير وحدها تنعم بالسعادة، بل حتى السكان والجيران والمارة. وفي حديث مع صاحبة المنزل أخبرتني أنهم يقومون كذلك بحملات توعية لكي لا يقوم الناس برمي العلكة في الحدائق والشوارع، لأن الطيور غالبا ما تأكلها ويؤدي ذلك إلى موتها.

اهتمامي بالموضوع أثار فضول صاحبة المنزل، وبما أنها كانت تعرف أنني مسلم سألتني هل للحيوان حقوق في الإسلام، وهل تحدث القرآن عنهم؟ في البداية أخبرتها أن سبب اهتمامي يرجع لكون ما رأيته من إكرام الطيور والرحمة والرفق بها هو من الأخلاق التي يربي عليها الإسلام، الذي يخبرنا في القران أن الحيوانات هي أمم مثلنا "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" ويوصينا بالرفق بها واحترام مشاعرها، فعن عبد الله ابن مسعود قال "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأينا حمَرة، وهي طائر يشبه العصفور، معها فرخان لها، فأخدناهما فجاءت الحمَرة تعرش أي ترفرف بجناحيها، فلما جاء رسول الله قال: "من فجَع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها".

ولقد روى النسائي وابن حبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يارب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة". وحتى في قتل الحيوان من أجل المنفعة فيجب الإحسان فيه كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وابو داود ومالك والترميذي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته". 

بل أكثر من هذا، إذا كان هدف المسلم هو دخول الجنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الرحمة بالحيوان قد تدخل صاحبها الجنة وعدمها قد يدخله النار. ويعلمنا في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم، أن امراة دخلت النار في هرَة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض. وأخبرنا كذلك أن في البهائم لنا أجر "بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا يارسول الله وإن لنا في البهائم لأجر؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر".

استغربت المستمعة من كلامي وقالت لي هذا جميل ولكن هل قام المسلمون بتطبيق هذه التوجيهات والأخلاق الحميدة على أرض الواقع؟ نظرت إليها وسكت وكأنني أتذكر تاريخ الإسلام المجيد، بل تاريخ مرحلة هامة من الحضارة الإنسانية، وكادت السيدة أن تفهم أن صمتي هو تعبير عن عدم وجود نماذج للرحمة والرفق بالحيوان في تاريخ المجتمعات الإسلامية إلا أنني قطعت صمتي قائلا: بالطبع قام المسلمون بتطبيق هذه التعاليم وقاموا كذلك بتأليف مجموعة من الكتب التي تتكلم عن أحكام الرحمة بالحيوان في الإسلام، منها ماجاء في كتاب الدكتور مصطفى السباعي، الذي أخبرنا أن الفقهاء المسلمين كانوا يقرون بوجوب النفقة على الحيوان من مالكه، فإن امتنع أجبر على بيعه أو وضعه في مكان يجد فيه رزقه ومأمنه. وأقروا وجوب النفقة في حال لجوء قطة عمياء إلى بيت شخص وعدم قدرتها على الانصراف منه.

ومن الجميل في تاريخ الإسلام أن الخلفاء كانوا يأمرون الرعية بالرفق بالحيوان، حتى أمر عمر بن عبد العزيز الولاة أن ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حق، وكان من وظيفة المحتسب وهو بمثابة الشرطي في عصرنا، أن يمنع الناس من تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، فمن فعل ذلك تتم معاقبته. والأجمل أن الحيوانات كانت تستفيد من أوقاف خاصة لتطبيب المريضة منها، وأخرى للحيوانات المسنة العاجزة، ومنها أرض المرج الأخضر بدمشق سوريا، البلد الجميل الذي نحبه جميعا، التي كانت وقف للخيول العاجزة ترعى فيها حتى تموت، وبدمشق كذلك كان هناك وقف للقطط تأكل منه وتعيش بأمان. وبطنجة في المغرب مازلت أتذكر فيلا في وسط المدينة بساحة ايبريا كانت تسكنها المئات من القطط، وتتواجد بنفس المدينة مقبرة للكلاب ببوبانة، استعملت عندما كان الإنسان مكرم، والطبيعة محمية، والحيوان مرحوم، أما واقعنا اليوم، فأغلب القطط والكلاب لكي لا نعمم، تشردت وأصبحت تعيش في الشوارع، لأننا تخلينا عن قيمنا الإسلامية والإنسانية وقسونا وعنفنا الإنسان قبل الحيوان.

انتهى لقائي مع السيدة المكسيكية وتوصلت إلى خلاصة مفادها أن الأمم لا تسعد ويصبح أهلها أهل السلام إذا لم تضمن الكرامة الإنسانية للناس جميعا، بغض النظر عن اختلاف ألسنتهم وأديانهم وألوانهم، وتعطي للأخلاق دورها في بناء مجتمع انساني سليم، يقوم على الاحترام والتعاون والتسامح والرحمة واحترام حقوق الإنسان والطبيعة والحيوان.

سعيد بحاجين
دكتور في دراسات السلام الدولية وباحث في كرسي اليونسكو لفلسفة السلام باسبانيا

No comments:

Post a Comment