Friday, October 10, 2025

المسيرة الخضراء الثانية: من تحرير الأرض إلى تحرير الإنسان

في ذكرى المسيرة الخضراء، ذلك المشروع الوطني الأسطوري الذي حرر الأرض واسترد السيادة، تأتي اليوم مسيرة جديدة لا تقل أهمية ولا عظمة. إذا كانت الأولى قد حررت التراب، فإن الثانية تهدف إلى تحرير الإنسان. إذا كانت المسيرة الخضراء قد أنهت الاستعمار الخارجي، فإن المسيرة الخضراء الثانية تواجه استعماراً من نوع آخر: استعمار الفقر، والجهل، والمرض، والإهانة.

ما تشهده الساحة الاجتماعية اليوم ليس مجرد احتجاجات عابرة، بل هو تمرد وجودي على ثقافة "الإهانة" التي اخترقت نسيجنا المجتمعي، من الأسرة إلى الشارع، إلى المدرسة والإدارة. لقد تحوّل الإذلال اليومي إلى لغة غير منطوقة ولكنها مفهومة، أفقدت الأجيال الجديدة إحساسها الأساسي بالكرامة، مما يجعل من هذه الاحتجاجات، في جوهرها، أزمة هوية تسبق أي أزمة اقتصادية أو اجتماعية.

جيل اليوم أو جيل زد لا يطالب بامتيازات استثنائية، بل يطالب بحقه الأساسي في العيش بكرامة. صرخاتهم ليست فوضى، بل هي ترجمة لواقع مؤلم: "نحن أبناء هذا الوطن، نستحق أن نعيش باحترام كما يعيش غيرنا من الشعوب".

أما أعمال الشغب والعنف التي يمارسها بعض القاصرين، فهي ليست سوى الوجه المأساوي لغضب مكبوت. إنها نتيجة حتمية لتراكم الإهانات اليومية، حيث يتحول الإنسان من كائن مسالم إلى كائن عنيف عندما تُسلب كرامته وتُحبط آمالهفيكفي أن تُمنح للطفل مساحة لعب آمنة، وللشاب فرصة عمل كريمة، وللأسرة سقف يحمي كرامتها، حتى تختفي جذور العنف من تلقاء نفسها. فالعنف لا يولد من فراغ، بل هو ابن شرعي لليأس، والإحباط، والحرمان من أبسط مقومات العيش الكريم.

واقعنا اليوم - والمغرب في المرتبة 120 عالمياً في التنمية البشرية - لا يعكس لا تاريخنا الحضاري ولا إمكاناتنا الطبيعية. هذا الترتيب ليس مجرد رقم، بل هو مرآة تعكس مأساة المواطن في التعليم، والصحة، والشغل، والكرامة.

لكن هذه الواقع، رغم كل ما يحمله من تحديات، هو أيضاً لحظة وفرصة تاريخية لكتابة فصل جديد في ملحمة "الملك والشعب"، حيث تتحول الاحتجاجات إلى مشروع بناء، والغضب إلى طاقة إيجابية، والألم إلى أمل.

أمام هذا الواقع، لم يعد كافياً اللجوء إلى حلول ترقيعية أو مسكنات إعلامية. ما نحتاجه هو ورش وطني إصلاحي شامل، يليق بعظمة المغرب وتاريخه. مشروع تحولي يشارك فيه الجميع: الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الغني والفقير، الأمي والمتعلم. مشروعٌ يبدأ من القرى المهمشة قبل المدن الكبرى، يلامس حياة الناس حيث كانوا، ويضع الكرامة في صلب اهتماماته.

ولنا في تاريخنا الوطني ما يلهمنا. فكما اجتمع المغاربة لبناء صرح مسجد الحسن الثاني، ذلك المشروع الوطني الذي شارك فيه الجميع بمالهم وجهدهم وأحلامهم، يمكن اليوم أن نجتمع لبناء الإنسان المغربي الجديد: الإنسان الحر، الكريم، المتصالح مع ذاته وهويته.

إننا أمام لحظة فارقة. بناء جديد، لكنه لا يقوم على الحجارة، بل على الإنسان. ورش كبير لاستعادة الإحساس الوطني المشترك، وتحقيق تطلعات الشباب، وتحرير المواطن من شعور الإهانة والتهميش.

لقد حان الوقت لكتابة فصل جديد في ملحمة "الملك والشعب". وإذ نحن على أعتاب الذكرى السنوية للمسيرة الخضراء، فإن المناسبة تطرح نفسها كموعد تاريخي لإطلاق المسيرة الخضراء الثانية، ولكن هذه المرة نحو الإنسان لا الأرض، نحو القرى المهمشة، والمدارس المنهارة، والمستشفيات المعطلة، والمحاكم التي فقد فيها المواطن الثقة.

كما أعلن الملك الراحل الحسن الثاني عن المسيرة الخضراء الأولى في خطاب تاريخي، فإن الخطاب الملكي المرتقب في السادس من نونبر يمكن أن يكون إعلانًا عن انطلاق مسيرة جديدة: "مسيرة الكرامة"، تحت قيادة جلالة الملك محمد السادس، لتحرير المواطن من استعمار الفقر، والإقصاء، والفساد، والإهانة.

هذه المسيرة لن تكون نحو الصحراء، بل ستكون نحو عمق القرى والمدن، نحو المدارس والمستشفيات والمحاكم. ستكون ثورة الملك والشعب الثانية التي تنفذ عبر خطة وطنية شاملة للعيش بسلام، ترتكز على أربع جبهات رئيسية تشكل معاً خريطة الطريق لتحرير الإنسان وإعادة الاعتبار لكرامته:

- جبهة القضاء على الفساد: لتحويل الإدارة من أداة للإذلال إلى خدمة عمومية تصون كرامة المواطن وتضمن حقوقه.

- جبهة النهوض بالتعليم: لبناء الإنسان الحر، المتصالح مع ذاته، القادر على التفكير والإبداع والمساهمة في تقدم بلاده.

- جبهة الصحة للجميع: لضمان كرامة المريض وجعل الرعاية الصحية حقاً مكفولاً للجميع.

-جبهة القضاء العادل: لاستعادة ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، وتكريس مبادئ الإنصاف والشفافية واحترام الحقوق.

هذه الجبهات الأربع ليست منفصلة، بل هي حلقات متصلة في سلسلة الكرامة: إدارة نظيفة تفتح أبواب التعليم الجيد، الذي يضمن صحة أفضل، التي يحميها قضاء عادل.

لكنّ هذا الورش التنموي الشامل لن ينجح دون روح جديدة تقوم على قيم السلام، والتربية على الكرامة، والاحترام المتبادل. نحن بحاجة إلى تربية تُأنسن الإنسان، وتُعيد له ثقته في نفسه، وتجعله فاعلاً إيجابياً في محيطه. وهذا يتطلب ثورة تربوية تبدأ من الأسرة وتمتد إلى المدرسة والمجتمع، لصنع مواطن يعتز بوطنيته وكرامته ويحترم كرامة الآخرين.

ختاماً، مسيرة الكرامة ليست برنامجاً حكومياً ولا مجرد خطاب عاطفي. إنها دعوة لصياغة عقد اجتماعي جديد بين العرش والشعب، يضع الكرامة في قلب السياسات العمومية. وهنا نستحضر كلمات الإمام الشيخ محمد الغزالي: "إن الأمم لا تحيا إلا إذا ارتفع شعور الكرامة في نفوس أبنائها".

هذه المسيرة هي لحظة للإنصات إلى صرخة جيلٍ يرفض الإهانة ويطالب بالاعتراف والكرامة التي ليست شعاراً، بل هي الأرض التي تُبنى عليها كل تنمية، وكل إصلاح، وكل عدالة. إنها مسيرة تذكرنا أن كرامة المواطن ليست ترفاً فكرياً، بل هي شرط أساسي لحياة الأمة وتقدمها، وهي الركيزة التي بدونها تتداعى كل مشاريع الإصلاح والتنمية. إنها مسيرة تثبت أن المغرب، الذي أبهر العالم بمسيرته الخضراء، قادر على أن يذهله مرة أخرى بمسيرة خضراء ثانية تخرج من رحم المعاناة، وتصنع من الألم أمل، ومن الإهانة كرامة، ومن الاحتجاج مشروع وطن.

فكما انطلقت المسيرة الأولى بعزم الأجداد، تنطلق بإذن الله المسيرة الثانية بإرادة الأحفاد، ليكتمل مشروع التحرير: أرضاً وإنساناً.

سعيد بحاجين 
دكتور في دراسات السلام الدولية والنزاعات والتنمية، وباحث في كرسي اليونسكو لفلسفة السلام باسبانيا.



No comments:

Post a Comment